الطبيب أحمد نعينع.. من الريف إلى قصر الرئاسة

القارئ الطبيب أحمد نعينع واحد من مشاهير القراء الذين نالوا حظا وافرا من حسن الترتيل وجمال الشكل وسعة الشهرة والنفوذ.

انتقل ببركة القرآن من ريف مصر إلى قصر الرئاسة حيث عمل مع الفريق الطبي للرئيس محمد أنور السادات. واستفاد من جيل العظماء من مشاهير القراء وعلى رأسهم القارئ مصطفى إسماعيل، كما استفاد من الملحن محمد عبدالوهاب.

جاب معظم دول العالم يتلو كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار والتقى عدداً من رؤساء وملوك العالم العربي ولكنه لم ينس الشيخة أم السعد التي عملته القراءات في الإسكندرية.

يقول الشيخ الطبيب كما يحب أن يناديه الناس: “بدأت حفظ كتاب الله عز وجل مع لوح وكتاب الشيخ أحمد الشوا حيث دخلت هذا الكتاب في بلدتي التي ولدت بها وهي قرية مطوبس بمحافظة كفرالشيخ إحدى محافظات دلتا مصر”، وكأن كفرالشيخ هذه موعودة بتخريج كبار قراء القرآن الكريم وعلى رأسهم الشيخ ابو العينين شعيشع.

ويتابع: “عندما دخلت هذا الكتاب كان عمري لم يتجاوز الرابعة، وكان ذلك عام 1956م. وكان لسيدنا الشيخ الشوا أسلوب جميل في تحفيظ القرآن الكريم للأطفال حيث طلب من كل واحد منا أن يحمل لوحا خشبيا “أشبه بالسبورة المتنقلة” ومكتوب عليه “ربع من القرآن” وكنا نقوم بتعليقه في رقبتنا حتى لا يضيع، ويومها كان الشيخ يردد لنا مقولة مفادها أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ، فلا يحفظ إلا في اللوح أيضا.. هذا اعتقاده!”.

ويضيف الشيخ الطبيب أحمد نعينع: “كنت أحفظ القرآن في هذه السن وأنا لا أدرك معانيه، وكان الشيخ الشوا عندما يقوم بالتسميع لنا يعاقب من ينسى بالضرب بالفلكة، ويالها من عقاب شديد، لكنها بحق خلقت منا حفاظا للقرآن الكريم”.

لقد بدأت أبحث وأجري وراء المشايخ ممن يقرأون القرآن في أي مكان فأجلس لأستمع إليهم وأقلدهم، كما كانت أذناي لا تفارقان المذياع الموجود في منزلنا، وقد نجحت في تقليد بعض المشايخ المشهورين في تلك الفترة من أمثال الشيخ أمين الهلالي والشيخ مصطفى إسماعيل، الغريب ان التقليد سبق حفظي القرآن كاملا، كنت حافظا بعض الآيات لكن الشيخ الشوا بدأ تعليمي أحكام الحروف والمخارج وكيفية تجويد القرآن، وقد أكرمني الله بأن جودت القرآن كله وعمري 9 سنوات.

“أيضا كان لي حسن القربى من الشيخ محمد فريد.. الذي تعلمت منه أول قراءة كاملة للقرآن وكانت أولى هذه القراءات في مسجد سيدي علي السمان وشاءت الظروف أن يحضر هذه القراءة الإمام الأكبر الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الأزهر رحمه الله إلى جانب الشيخ أحمد زين العابدين الذي كان يقوم بتفسير القرآن الكريم في المسجد ذاته، وقد مكثت عشر سنوات وأنا أقرأ القرآن في صلاتي الفجر والجمعة”.

تقليد مصطفى إسماعيل

“منذ أن وطئت قدماي كتاب الشيخ الشوا تمنيت أن اصبح قارئا مشهورا للقرآن الكريم، فتعلقت عيناي وقلبي بالشيخ مصطفى إسماعيل، حتى قبل أن ألقاه وذلك من خلال سماعي له عبر أثير الراديو، وقد ملك كل حواسي لإعجابي الشديد به، وبصوته الجميل وكنت وأنا صغير أحاول أن أقلده وذات يوم علمت أنه سوف يقوم بإحياء ليلة في قرية تبعد عني نحو 5 كيلومترات فتسللت ومعي مجموعة من زملائي مشيا على الاقدام لنشاهد الشيخ مصطفى إسماعيل.. جلست أستمع إليه، سعدت بما سمعت، ومن يومها صار الشيخ ملء عقلي وفؤادي.. كنت أقلده في كل مكان أذهب إليه، حتى في متجر الغلال الذي كان والدي يمتلكه أخلو مع نفسي فأطنطن مع آيات القرآن.. وانا أقول لنفسي يا جمالك يا شيخ أحمد”.

“معظم قراء القرآن تخرجوا في الأزهر، أو على الأقل التحقوا به في البداية، غير أنني لم أفعل ذلك، كان والدي تاجر غلال، تركني لحرية اختياري، التحقت بالتعليم الحكومي وحققت فيه تفوقا ملحوظا، وفي المرحلة الإعدادية شجعني أساتذتي على القراءة في الحفلات المدرسية وفي طابور الصباح.. بدأت بعد ذلك بتلاوة القرآن الكريم في مسجد قريتنا، وعندما التحقت بالمرحلة الثانوية بدأت في تعلم أصول القراءة على يد الشيخ “الشوا”.. وكان هذا الشيخ من أكثر المقربين للشيخ محمد رفعت”.

“بعد أن ازداد حبي للشيخ مصطفى إسماعيل تعرفت إليه عن قرب، عندما ذهبت إلى كلية طب الإسكندرية، فوجدت أنه شيخ شامل، فلو كانت لكل شيخ طريقة، فإن للشيخ مصطفى العديد من الطرق، دفعني هذا إلى البحث عن أحد المعلمين.. كي أتعلم على يديه القراءات العشر.. فوجدت الشيخ محمد فريد شيخ عموم المقارئ بالإسكندرية وزوجته الشيخة أم السعد، كانت تقرأ القرآن بالإسكندرية برأس التين، وهي صاحبة “إجازة” تعطيها لمن يأخذ عنها القراءات، حيث تمتد السلسلة إلى 26 شيخا، وقد تعلمت على يديها القراءات العشر للقرآن وكنت أبدأ معها بعد صلاة الفجر إلى الساعة السابعة مساء”.

بداية الشهرة


“مع نهاية مرحلة الثانوية العامة، التحقت بكلية الطب في جامعة الإسكندرية وقد كنت أجلس في أول الصفوف في قاعة المحاضرات فبدأ زملائي داخل الكلية الاستعانة بي في الحفلات والمؤتمرات، وفي إحدى هذه الحفلات استمع إلي الدكتور أحمد السيد عميد الكلية، ويبدو ان صوتي قد أعجبه حيث أصر على اصطحابي إلى الندوات التي كانت تقيمها جمعية الشبان المسلمين، حيث كان رئيسها الشرفي، لأقرأ في افتتاحها وقد كان يحضر هذه الندوات كبار رجال الدين كالشيخ الباقوري والشيخ عبدالحليم محمود والشيخ الشرباصي.. ومن خلال هذه اللقاءات بدأت الانطلاقة إلى القراءة في مسجدي المرسي أبو العباس وسيدي بشر”.

وذات يوم دعيت إلى قراءة القرآن في حي اللبان، وهناك فوجئت بوجود الشيخ مصطفى إسماعيل، فقرأ الشيخ، وقرأت معه بين التلاوتين، وكان الخوف يعتريني وبعد أن فرغت من التلاوة إذ به يحييني، ودعاني للجلوس معه، وقال لي “حافظ على نفسك، بكره تصبح مشهور، وإن مت أرجوك أن تقرأ لي الفاتحة”.

ويستطرد الشيخ نعينع: لقد كان الشيخ ممتلئا بالنغمات وطرق الأداء.

رحلتي مع الإذاعة



ويعترف الشيخ نعينع بأنه دخل الإذاعة عن طريق المصادفة، ويقول: “اعتمدت بالإذاعة عن طريق المصادفة، وليس عن طريق الرئيس الراحل أنور السادات، لكن الذي حدث أنني ذات يوم كنت أجلس مع الشيخ مصطفى إسماعيل.. وعندما قرأت سورة “الشورى” وعلى ما أذكر أن نغمة هذه الآية كانت نغمة الصبا ومنها نغمة الجركا، هنا رأيت الشيخ يرفع عمامته ويقول “الله.. الله”، وبعدها قام وصافحني، وقال إنه سوف يزكيني للاعتماد في الإذاعة، لكنه رحل وتبعه الشيخ عبدالحليم محمود الذي وعدني هو الآخر بأن يزكيني للدخول في الإذاعة.

وذات يوم دعيت لإحياء حفل بالقاهرة، وكان من بين الحضور المذيعة آمال فهمي، وقد أعجبت بصوتي وسجلت معي لمدة سبع دقائق في برنامجها “على الناصية” وأخبرتها بأنني تقدمت للإذاعة، فما كان إلا ان اتصلت برئيسة الإذاعة، التي حددت لي موعد الامتحان أمام اللجنة التي كانت تضم الشيخ مرسي عامر، والشيخ رزق حبة، والشيخ عفيفي الساكت والملحن أحمد صدقي ومحمود كامل.. وقد نجحت والحمد لله، وتم اعتمادي بالإذاعة المصرية في نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1979.

قارئ الرئاسة


جيل العمالقة من مشايخ دولة التلاوة هل ولى وانتهت أيامه وعدنا لم نسمع غير المقلدين؟ وهل البدلة وعدم لبس العمة والكاكولا هي سبب شهرة نعينع؟ وهل لقب قارئ الرئاسة يضايقه؟

يرد الشيخ الطبيب: “إنه لقب يسعدني ويشرفني، أما كون اسمي يرتبط بأنني قارئ الرئيس السادات فذاك لا بد له من تصحيح، حيث لم يكن الرئيس السادات أول الزعماء الذين قرأت أمامهم القرآن بل قرأت أمام الملك خالد بن عبدالعزيز عاهل السعودية وكان أول الملوك الذين قرأت أمامهم كان ذلك في إحدى الحفلات بالإسكندرية والمرة الأولى التي سمعني فيها السادات عندما كنت مجندا في القوات المسلحة في إحدى الحفلات الخاصة ثم المرة الثانية في عيد الطبيب.. بعد ذلك ضمني إلى سكرتاريته الخاصة، ضمن مجموعة من الأطباء كان يطلق عليها لقب “طبيب خاص” كنت اقرأ في جميع المحافل التي كانت تقيمها رئاسة الجمهورية، وذهبت معه إلى وادي الراحة في العشر الأواخر من شهر رمضان وكان يحب سماع سور “طه” و”الأعراف” و”الشعراء”، و”النمل” وكل ما ورد فيه ذكر نبي الله موسى عليه السلام وفرعون.

أما عن رحلاته الخارجية فيذكر الشيخ نعينع انه قرأ في معظم بلدان العالم الإسلامي تقريبا ويقول: “أذكر عندما قرأت في إيران وكانت الظروف السياسية قلقة صافحني الرئيس خاتمي بعد التلاوة وقال لي: “نتمنى لمصر كل خير.. الشعب المصري شقيق وطيب وأنتم تعلموننا القرآن، فالقراء الإيرانيون يقلدون المدرسة المصرية العريقة في التلاوة”.

ويضيف الشيخ نعينع: “قرأت القرآن الكريم في جنوب إفريقيا، حيث عُد لي مكان التلاوة في استاد كيب تاون الذي يتسع لأكثر من مائة ألف وقرأت بالعراق، وبالتأكيد ترددت أكثر من مرة على السعودية والإمارات العربية وسلطنة عمان والكويت”.

مع الملك الحسن
وعن حكايته مع الملك الحسن ملك المغرب يقول: “في فجر أحد أيام رمضان كانت الفضائية المصرية تقوم بنقل شعائر صلاة الفجر، يومها قرأت قرآن الفجر لمدة 45 دقيقة كاملة، وتصادف أن الملك الحسن استمع لقراءتي القرآن، وفي اليوم التالي وجدت من يتصل بي ويقول أنا وزير أوقاف جلالة الملك الحسن الثاني، وهو يدعوك لحضور الدروس الحسينية، لبيت هذه الرغبة ومكثت في المغرب عشرة أيام وكنت اقرأ القرآن في كل ليلة لمدة نصف ساعة يوميا.

ويتحدث الشيخ الطبيب أحمد نعينع عن بعض التقاليد والعادات التي يلتزم بها في قراءاته فيقول: “أستمد اصول القراءة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن لم تبكوا فتباكوا عند قراءة القرآن” لذلك لا بد من الخضوع والخشوع والإحساس والفهم.. وكما يقول النبي صلى الله عليه وسلم “أحسن الناس صوتا من إذا سمعته حسبته يخشى الله” فالشيخ سعيد نور والشيخ محمد رفعت.. كان صوتاهما مشبعين بالروحانيات.

“وأرى أن زمن التلاوة الجيد لم ينته لكن المناخ تغير ووسائل تجميل وتكبير الأصوات أصبحت متعددة، وهي لم تكن موجودة من قبل كان الناس يجوبون البلاد خلف المشايخ وهذا أحد أسباب عشق هذه الأصوات وبقاء سماعها إلى اليوم، كما أن الزمان لا يجود بالمواهب في فترات قصيرة، علينا أن ننتظر”.

ومن عاداتي في القراءة أنني أفضل أن أقرأ ومعدتي خالية، وأحافظ على صوتي بالنوم مبكرا، لا أشرب المثلجات ولا الساخن جدا مخافة أن يلتهب صوتي، ابتعد عن الأكل الذي يسبب الحموضة وأرفع رأسي أثناء التلاوة كي لا يختنق صوتي.

أحب سماع الشيخ محمد رفعت ومصطفى إسماعيل ومن الأحياء الشحات وأنور وراغب مصطفى غلوش وأنصت إلى الشيخ محمد جبريل.

والشيخ نعينع زوج لأستاذة في التحاليل الطبية، ووالد لثلاث بنات اثنتان درستا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة والثالثة في التعليم العام، ويسعد جدا بلقب أبو البنات.
منقول من جريدة الخليج
الإمارات
9-11-2004