كيف نزل القرآن؟
الشيخ محسن الآراكي
لاشك أن القرآن نزل نجوماً وعلى التدريج، وأن آياته تتابعت طبق المناسبات والظروف التي كانت تمر بها رسالة الله في مسيرها الجهادي الظافر تحت قيادة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وقد لمحت إلى هذا النزول التدريجي للقرآن الآية الكريمة:
(وقرآناً فرّقناه لتقرأه على الناس على مكث ونّزلناه تنزيلاً) [الأسراء : 106].
وقوله تعالى (وقال الّذين كفروا لو لا نُزّل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبّت به فؤادك، ورتّلناه ترتيلاً، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً ) [الفرقان : 32-33].
ومع ذلك فإن هناك نصوصاً قرآنية تشير إلى دفعيّة النّزول القرآني على ما يفهم من ظاهرها وذلك كما في الآيات المباركة التالية:
قال تعالى (شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيّنات من الهدى والفرقان) [البقرة : 185].
وقال تعالى (إنّا أنزلناه في ليلة مباركة إنّا كنّا منذرين)[الدخان : 3).
وقال تعالى (إنّا أنزلناه في ليلة القدر)[القدر : 1].
وقد أختلف الباحثون الإسلاميون في وجه الجمع بين الأمرين وقد ذكروا في ذلك آراء ونظريات نعرض فيما يلي لأهمها:
النظرية الأولى
وهي التي تعتبر للقرآن نزولين:
النزول الأول إلى البيت المعمور أو بيت العزّة ـ حسب بعض التعابيرـ وهذا هو النزول الدفعي الذي أشارت إليه بعض الآيات السابقة، والنزول الثاني على النبي محمد (صلى الله عليه وآله) بالتدريج وطيلة المدة التي كان يمارس فيها مهمته القيادية في المجتمع الإسلامي.
وقد ورد في هذا بعض النصوص عن الإمام الصادق عليه السلام، فقد روي عنه في قوله عزّ وجل: (شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن) كلام يقول فيه (إن القرآن نزل جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم أُنزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة)(1).
وقد نقل ما يقارب هذا عن ابن عباس أيضاً، فقد روي عنه أنه قال: أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أُنزل بعد ذلك بعشرين سنة(2).
وقد خالف المحققون من علماء القرآن هذا الرأي ورفضوا النصوص التي وردت فيها ورموها بالضعف والوهن وأقاموا شواهد على بطلانه.
يقول الشيخ المفيد (ره) تعقيباً على هذه النظرية التي أخذ بها أبو جعفر بن بابويه الصّدوق:
(الذي ذهب إليه أبو جعفر في هذا الباب أصله حديث واحد لا يوجب علماً ولا عملاً، ونزول القرآن على الأسباب الحادثة حالاً فحالاً يدل على خلاف ما تضمنه الحديث، وذلك أنه قد تضمن حكم ما حدث وذكر ما جرى على وجهه وذلك لا يكون على الحقيقة إلا لحدوثه عند السّبب، ألا ترى قوله تعالى:
(وقولهم قلوبنا غُلف بل طبع الله عليها بكفرهم) [النساء : 100].
وقوله: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم)[الزّخرف : 20].
وهذا خبر عن ماضٍ ولا يجوز أن يتقدم مخبره فيكون حينئذ خبراً عن ماضٍ وهو لم يقع بل هو في المستقبل، وأمثال ذلك كثيرة(3) .
ثم يستشهد رحمه الله ببعض الشواهد القرآنية الأخرى التي تؤكد النزول التدريجي للقرآن وتقوم قرينة على بطلان النزول الدفعي له.
ويناقش صاحب المنار هذه النظرية أيضاً ويرفضها قائلاً:
(ورووا في حلّ الإشكال أن القرآن نزل في ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا وكان في اللوح المحفوظ فوق سبع سماوات ثم نزل على النبي(صلى الله عليه وآله) في رمضان منه شيء، خلافاً لظاهر الآيات، ولا تظهر المنّة علينا ولا الحكمة في جعل رمضان شهر الصوم ـ على قولهم هذا ـ لأنّ وجود القرآن في سماء الدنيا كوجوده في غيرها من السموات أو اللوح المحفوظ من حيث أنه لم يكن هداية لنا، ولا تظهر فائدة في هذا الإنزال ولا في الإخبار به)(4) .
إذن فأهم ما يرد على هذه النظرية يتلخص في شيئين:
1 ـ ورود الآيات القرآنية في بعض المناسبات الخاصة بحيث لا يعقل التكلم بتلك الآية قبل تلك المناسبة المعينة.
2 ـ عدم تعقل فائدة النزول الأول للقرآن من حيث هداية البشر فلا وجه لهذه العناية به في القرآن والاهتمام به (إنّا أنزلناه في ليلة القدر).
النظرية الثانية
إن المراد من إنزاله في شهر رمضان وفي ليلة ابتداء القدر منه ابتداء إنزاله في ذلك الوقت ثم أستمر نزوله بعد ذلك على الرسول صلى لله عليه وآله بالتدريج ووفقاً للمناسبات والمقتضيات.
قال صاحب المنار (وأما معنى إنزال القرآن في رمضان مع أن المعروف باليقين أن القرآن نزل منجماً متفرقاً في مدة البعثة كلها فهو أن ابتداء نزوله كان في رمضان وذلك في ليلة منه سميت ليلة القدر ـ أي الشرف والليلة المباركة ـ كما في آيات أخرى وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه)(5).
وقال الشيخ المفيد:
(وقد يجوز في الخبر الوارد بنزول القرآن جملة في ليلة القدر أنه نزل جملة منه في ليلة القدر ثم تلاه ما نزل منه إلى وفاة النبي صلى الله عليه وآله)(6).
ويبدو أن هذا الرأي هو الذي استقطب أنظار الأغلبية من محققي علوم القرآن والتفسير نظراً إلى كونه أقرب الآراء إلى طبيعة الأمور وأوفقها مع القرائن وظواهر النصوص القرآنية، فإن القرآن يطلق على القرآن كله كما يطلق على جزء منه، ولذلك كان للقليل من القرآن نفس الحرمة والشرف الثابتين للكثير منه، فنزول جزءٍ من القرآن ـ أستهل به الوحي الإلهي في ليلة القدر من شهر رمضان ـ يصدق معه نزول القرآن في ليلة القدر وفي شهر رمضان.
وتأييداً لهذه الفكرة فإننا نحاول الإستفادة من التعابير الجارية بين عامة الناس حين يقولون مثلاً سافرنا إلى الحج في التاريخ الفلاني، وهم لا يريدون بذلك إلا مبدأ السفر، أو نزل المطر في الساعة الفلانية ويقصد به ابتداء نزوله، فإنه قد يستمر إلى ساعات ومع ذلك يصح ذلك التعبير.
وبعبارة أخرى ، أننا نلاحظ صحة هذا النوع من الاستعمال في الأسماء التي تطلق على قليل المعنى وكثيره على السواء كالمطر والسفر وأمثالها بخلاف ما لا يطلق إلا على المعنى بكامله كالبيت مثلاً فإنه لا يصح في العادة أن يعبّر عن الشروع ببنائه بعبارة (بنينا البيت في الزمان الفلاني)، وكلمة (القرآن)كما أشرنا سابقاً تطلق على كلام الله مطلقاً قليله وكثيره، فمن الطبيعي إذن التعبير عن ابتداء نزوله بـ (إنا أنزلناه في ليلة القدر) وما شاكل ذلك من التعابير.
ولا بد أن نضيف على هذا الرأي إضافة توضيحية هي أن المقصود من كون ابتداء النزول القرآني في ليلة القدر من شهر رمضان ليس ابتداء الوحي على النبي صلى الله عليه وآله..فإن افتتاحة الوحي المحمدي كانت لسبع وعشرين خلون من رجب على الرأي المشهور وكانت الآيات التي شعّت من نافذة الوحي على قلب الرسول(صلى الله عليه وآله) لأول مرة هي (إقرأ بأسم..إلخ) كما سيأتي الحديث عن ذلك في فصله، ثم أنقطع الوحي عنه لمدة طويلة ثم ابتدأه الوحي من جديد في ليلة القدر من شهر رمضان ـ وهذا الذي تشير إليه الآية المباركة ـ واستمر الوحي عليه صلى الله عليه وآله حتى وفاته..وبما ان هذا كان بداية استمرار النزول القرآني فقد صحّ اعتباره بداية لنزول القرآن.
النظرية الثالثة
وهي النظرية التي اختص بها العلاّمة الطباطبائي، تعرّض لها باختصار مع توضيح، وهي تمثل لوناً جديداً من ألوان الفكر التفسيري انطبعت بها مدرسة السيد الطباطبائي في التفسير.
وهذه النظرية تعتمد على مقدمات ثلاث تتلخص فيما يلي:
1 ـ هناك فرق بين (الإنزال) و (التنزيل) فالإنزال إنما يستعمل فيما إذا كان المُنزَل أمراً وُحدانياً نزل بدفعة واحدة والتنزيل إنما يستعمل فيما إذا كان المُنزَل أمراً تدريجياً وقد ورد كلا التعبيرين حول نزول القرآن:
(إنّا أنزلناه في ليلة مباركة) (ونزّلناه تنزيلاً).
والتعبير بـ (الإنزال) إنما هو في الآيات التي يشار فيها إلى نزول القرآن في ليلة القدر أو شهر رمضان بخلاف الآيات الأخرى التي يعبّر فيها بـ (التنزيل).
2 ـ هناك آيات يستشعر منها أن القرآن كان على هيئة وحدانية لا أجزاء فيها ولا أبعاض ثم طرأ عليه التفصيل والتجزئة فجعل فصلاً، فصلاً، وقطعة، قطعة.
قال تعالى (كتاب أُحكمت آياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير)[هود : 2].
فهذه الآية ظاهرة في أن القرآن حقيقة محكمة، ثم طرأ عليها التفصيل والتّفريق بمشيئة الله تعالى والإحكام الذي يقابل التفصيل هو وحدانية الشيء وعدم تركّبه وتجزئه.
3 ـ هناك آيات قرآنية تشير إلى وجود حقيقة معنوية للقرآن غير هذه الحقيقة الخارجية اللّقطية ، وقد عبّر عنها في القرآن بـ (التأويل) في غير واحدة من الآيات، قال تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وأدعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولم يأتهم تأويله، كذلك كذّب الذّين من قبلهم ، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين)[ يونس : 52-53].
وقال تعالى: (ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه على علم وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون، هل ينظرون إلا تأويله، يوم يأتي تأويله يقول الذّين نسوه من قبل قد جاءت رُسُل ربّنا بالحق)[الأعراف : 52-53].
فالتأويل على ضوء الاستعمال القرآني هو الوجود الحقيقي والمعنوي للقرآن وسوف يواجه المنكرون للتنزيل الإلهي تأويله وحقيقته المعنوية يوم القيامة.
واستـنتاجاً من هذه المقدمات الثلاث فللقرآن إذن حقيقة معنوية وحدانية ليست من عالمنا هذا العالم المتغّير المتبدّل، وإنما هي من عالم أسمى من هذا العالم لا ينفذ إليه التغير ولا يطرؤه التبديل ، وتلك الحقيقة هو الوجود القرآني المحكم الذي طرأ عليه التفصيل بإرادة من الله جلّت قدرته، كما أنه هو التأويل القرآني الذي تلمح إليه آيات الكتاب العزيز.
وإذا آمنا بهذه الحقيقة فلا مشكلة إطلاقاً في الآيات التي تتضمن نزول القرآن نزولاً دفعياً في ليلة القدر وفي شهر رمضان فإن المقصود بذلك الإنزال هو هبوط الحقيقة المعنوية للوجود القرآني على قلب رسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وانكشاف ذلك الوجود التأويلي الحقيقي للقرآن أمام البصيرة الشفافة النبوية، فإن هذا الوجود المعنوي هو الذي يناسبه الإنزال الدفعي كما أن الوجود اللّقطي التفصيلي للقرآن هو الذي يناسبه (التنزيل) التدريجي.
وليس المقصود مما ورد من روايات عن أهل البيت (عليهم السلام) حول النزول الأول للقرآن في البيت المعمور إلا نزوله على قلب النبي محمد (صلى الله عليه وآله) فإنه هو البيت المعمور الذي تطوف حوله الملائكة، وقد رمز إليها الحديث بهذا التعبير الكنائي.
وهذه النظرية مع ما تتصف به من جمال معنوي لا نجد داعياً يدعونا إلى تكلّفها كما لا نرى داعياً يدعونا إلى محاولة نقضه وتكلّف ردّه ، فليست النظرية هذه تتضمن أمراً محالاً، كما لا لزوم في الأخذ بها بعد أن وجدنا لحل المشكلة ما هو أيسر هضماً وأقرب إلى الذهن.
أول ما نزل من القرآن الكريم
تعددت الأقوال حول أول ما نزل من القرآن وأشهر ما قيل في ذلك وأصحه، أن قوله تعالى (أقرأ باسم ربك الذي خلق...) إلى قوله تعالى (علّم الإنسان ما لم يعلم) أول ما نزل من القرآن، وقد روي في ذلك أيضاً رأيان آخران:
أحدهما: أن سورة الفاتحة هي أول ما نزل من القرآن .
ثانيهما: أن سورة المدّثر هي أول ما نزل من القرآن، روي عن جابر وقد جمع بعض الباحثين هذه الآراء الثلاثة، فقال:
وطريق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات (إقرأ باسم ربّك) وأول ما نزل من أوامر التبليغ (ياأيها المدّثر) وأول ما نزل من السّور (سورة الفاتحة)(7).
ومهما يكن من أمر فلم يعد بين علماء القرآن خلاف في أن ( أقرأ باسم ربّك) هو أول ما نزل من القرآن، وأما غير ذلك من الأقوال فبين مرفوض لا يعبأ به وبين ما جمع بينه وبين كون (إقرأ) أول ما نزل بوجه من وجوه الجمع.
والذي يهمنا في هذا الموضع من البحث هو الصورة التي تم بها أول نزول للقرآن على النبي صلّى الله عليه وآله كما رسمتها لنا كتب التاريخ والحديث المتداولة بين إخواننا العامة ولم يكن يعنينا ذلك كثيراً لولا ما في ذلك من شناعة النّسبة إلى الرسول الكريم وبشاعة المشهد الذي تصوره لنا تلكم الأحاديث..وسوف نحاول فيما يلي نقل تلك الصور والمشاهد مع نقدها على ضوء من العقل ومسلّمات الإسلام وأصوله.
وروي الطبري في تفسيره:عن عروة عن عائشة، أنها قالت: كان أول ما ابتدى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصادقة كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان بغار حراء يتحنّت فيه اللّيالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق فأتاه، فقال: يامحمد أنت رسول الله قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجثوت لركبتي وأنا قائم ، ثم رجعت ترجف بوادري ثم دخلت على خديجة، فقلت زمّلوني، حتى ذهب عني الروح ثم أتاني فقال: يا محمد، أنا جبرئيل وأنت رسول الله، قال فلقد هممت بذلك فقال: يا محمد أنا جبرئيل وأنت رسول الله، ثم قال: إقرأ، فقلت: ما أقرأ؟ قال: فأخذني فغطّني ثلاث مرات حتى بلغ منّي الجهد، ثم قال إقرأ باسم ربّك الذي خلق، فقرأت، فأتيت خديجة فقلت لقد أشفقت على نفس، فأخبرتها خبري، فقالت أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً ووالله إنك لتصل الرّحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحل الكلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد قالت: اسمع من أبن أخيك فسألني فأخبرته، فقال:هذا الناموس الذي أنزل على موسى صلّى الله عليه وسلم ليتني فيها جذع، ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك، قلت: أو مخرجي هم؟ قال: نعم إنه لم يجيء رجل قط بما جئت به إلا عُودي ولئن أدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً(
.
هذه هي القصة كما روتها لنا كتب التفسير والتاريخ والحديث لدى إخواننا أهل السّنّة.
والقصة هذه مختلقة دون ريب، وقد افتعلتها أيادٍ أثيمة عبثت بالتاريخ الإسلامي أيما عبث وشوّهت حقائق الأحداث أيما تشويه، وليست هذه القصة بأكثر خطراً على الإسلام والمسلمين ولا أقل تعبيراً عن الكيد والحنق الذي يكنّه مفتعل الحديث للإسلام من قصة أخرى تقرن في كثير من كتب التاريخ والتفسير والحديث بهذه القصة وإليك نصها:
عن إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير:أنه حدّث عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي ابن عمّ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبرئيل عليه السلام كما كان يصنع، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخديجة ، ياخديجة هذا جبرئيل قد جاءني، قالت: قم يابن عمّ فاجلس على فخذي اليسرى، قال فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس عليها، قالت هل تراه قال: نعم، قالت:فتحول فاجلس على فخذي اليمنى، قالت: فتحول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس على فخذها اليمنى فقالت: هل تراه؟ قال نعم قالت: فتحول فاجلس في حجري، قالت:فتحول فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس في حجرها قالت: هل تراه؟ قال نعم قالت: فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس في حجرها، ثم قالت له:هل تراه ؟ قال لا، قالت يا بن عمّ أثبت وأبشر، فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان(9).
وهذه جريمة أخرى من جرائم الدسّ والإختلاق والتزوير التي بُلي بها الإسلام أشد البلاء منذ إنحسرت القيادة المبدئية عن مسرح الحكم وتناولت أمواج الحوادث وتيارات الأهواء سفينة الإسلام فأخذت بها يميناً وشمالاً.
ولا بد هنا أن نلمح إلى دلائل الاختلاق والانتحال البادية على هاتين القصتين ، ونبدأ بالقصة الأولى وفيها من دلائل الاختلاق ما يلي:
الأول: إن الرواية تصرح في أول الأمر بأن أول ما ابتدى به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة..ثم حبّب إليه الخلاء.. مما يدل على أن مسألة النبوة المحمدية كانت مسبوقة برعاية خاصة وأنها لم تكن حدثاً فجائياً لم تمهد له الأرضية ولم تهيأ له المقدمات..وإنما أعد الرسول الكريم إعداداً إلهياً خاصاً تحت رعاية وتربية إلهية فريدة تتقبل الوحي والاتصال بعالم الغيب، فلم يكن نزول الوحي عليه أمراً مرتجلاً ومولود الساعة..وإذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان المتأمل يقف حائراً أمام المشهد الذي تصوره الرواية لنزول الوحي..رسول الغيب ينزل على النبي ليبتعثه رسول رحمةٍ للعالمين، فترتجف بوادر هذا ويفقد تمالكه حتى يكاد يطرح نفسه من حالق من جبل..ثم يصرح له رسول الغيب بالحقيقة مرة ومرتين..أنت رسول الله وأنا جبرئيل..ولا يغني هذا التصريح في رفع الهول وإزالة الروع شيئاً..أفليس تلك التربية الإلهية الإعداد الرباني كان كفيلاً بتهيئة الجو الروحي والنفسي الذي تزول معه كل أشكال القلق والاضطراب المنبعث عن الارتجال المفاجئ..
الثاني: إن الاتصال بالعالم الأعلى من طبيعته أن يلهم الإنسان في حالة الصلاة وأمثالها..ولا يمكن أن يكون الوحي وهو ليس إلا نوعاً خاصاُ من الاتصال بعالم الغيب إلا باعثاً على هذا السكون والاطمينان والاستقرار النفسي، بل لا بد أن يوجد من الاطمينان أسمى أشكاله في النفس ومن الاستقرار على نماذجه في الروح..أما أن تصيب النفس البشرية بهذه المسّة المروّعة التي تشبه مسّة العفاريت والأغوال، فتترك الإنسان في قلق صاخب واضطراب ثائر، فهذا مما لا تهضمه العقول.
الثالث: أن قبول هذه الرواية يعني قبول أحد الأمور التالية:
1 ـ أن يكون الرسول ـ والعياذ بالله ـ غير صادق فيما يحدّث به عن حالة الوحي الأول.
2 ـ أن يكون صادقاً ولكن المشاهد التي حكاها عن ظروف الوحي الأول وملابساته، لم تكن إلا صوراً خيالية وأشباحاً وهمية كالتي تتراءى للمصابين بالأمراض النفسية والروحية.
3 ـ أن يكون صادقاً، والمشاهد التي شاهدها مشاهد حقيقية غير خيالية، وكان الرسول صلّى الله عليه وآله على سلامة كاملة، ولكنه مع ذلك لم يؤمن بكل ما رأى ولم تكف تلك الحقائق العينية التي شاهدها وعاشها أن توجد في قلبه اطميناناً ويقيناً بالوحي بل ظل شاكاً متردداً في هذا الذي تراءى له، أهو حقيقة أم خيال، أهو واقع أم وهم..حتى طمأنته خديجة بذلك وحتى شهد له ورقة بصحة كل ما رأى وكل ما شاهد.
وكل هذه الثلاثة باطلة بحكم العقل والواقع.
أما الأول والثاني فهما باطلان بحكم العقل وبحكم الشواهد والأرقام التاريخية التي تنطق بالعظمة التي كانت تتصف به شخصية الرسول الكريم والكمال الإنساني الذي كان قد تجلى بأسمى أشكاله في وجوده الطاهر، وهذا بغض النظر عن كونه رسول الله وخاتم النبيين وسيد الأنبياء.
وأما الثالث، فهو زائف بحكم الوجدان، أو ليس من شهيد الحقيقة عياناً أولى باليقين بها ممن لم يعلم بها إلا بالسماع عن مخبر واحد شاكٍ في حقيقة ما يخبر عنه، أوليس من الهزل أن يرى امرؤ حدثاً ثم يخبر به إنساناً آخر ثم يكون هذا الثاني أكثر منه اطميناناً بما أخبره به، بل يحاول تطمينه وتسكينه إلى الحدث الذي أخبره به.
ثم لا نعلم كيف يرضى مفتعل الرواية أن يكون النبي ـ والعياذ بالله ـ شاكاً فيما سمعه ورآه، ثم ينقلب شكه هذا إلى يقين بمجرد أن سكّنته خديجة أو أقره ورقة على ما رآه وأخبر عنه؟!
الرابع: والآن لنعرف المصدر الذي استلهم منه واضع هذه الرواية هذه الأرقام التي نسجها حول بدء الوحي، فإننا إذا طالعنا شيئاً من كتب العهدين رأينا فيها صوراً من الوحي على الأنبياء تحمل نفس الطابع الذي تحمله روايتنا هذه، ونذكر على سبيل المثال النماذج الآتية(10) :
في التوراة أن إبراهيم لما أوحي إليه في شأن نسله وغربتهم وقع عليه عند مغيب الشمس سبات ورعبة مظلمة.(سفر التكوين: الإصحاح 15/الآية 12-15).
وأن يعقوب لما رأى في الحلم، السلّم والملائكة وخاطبه الرب واستيقظ خاف وقال ما أرهب هذا المكان.(التكوين:الإصحاح 28/12-18).
وعن قول دانيال في بعض رؤياه ومكاشفاته بالوحي، وسمعت صوت إنسان بين أولادي فنادى وقال:يا جبرائيل فهمّ هذا الرجل فجاء إلىّ حيث وقفت، ولما جاء خفت وحزرت على وجهي وإذ كان يتكلم معي كنت مسنجاً على وجهي إلى الأرض، فلمسني وأوقفني على مقامي.(كتاب دانيال/الإصحاح8/16-19).
وفي الإنجيل: ان زكريا لما رأى ملاك الرب عن يمين مذبح النجور اضطرب ووقع عليه الخوف.(إنجيل لوقا11/12).
فالرواية إذن إسرائيلية مدخولة شاء بها اليوم الحاقدون ومن شاكلهم من عصابة المختلقين والوضّاعين أن يطفئوا نور الإسلام ويشوهوا صورته ويغيروا معالمه..ولكن الله أبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
ومن الغريب الذي يؤسف له أن تتناقل كتب الحديث والرواية والتاريخ هذه الأكذوبة ويعتمد عليها الكتّاب الإسلاميون حتى المتجدّدون والمحدّثون منهم.
أما الرواية الثانية فهي مهزلة من مهازل الاختلاق والوضع، أو كان الوحي الإلهي ألعوبة يتلهّى بها البسطاء؟ أم كان النبي العظيم ـ والعياذ بالله ـ ذلك الرجل المتحلل المطواع الذي ينتقل من فخذ إلى فخذ إلى حجر لتقضي خديجة أمنيتها في رؤية الملك!، أم كانت خديجة سلام الله عليها المرأة الخفيفة العقل التي تطلب أمراً تعلم أن لا سبيل لها إليه؟.
أو كانت النبوة ورسالة الله العظيم التي تحمل مسؤولية إنسان الأرض من أقصاها إلى أقصاها، لتخضع لهذه الآماني والأحلام التي تراود صدر هذا وذهن ذلك..؟
المصادر :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البحار ج/92 ص 221.
(2) الوسائل ج 7 / ص229.
(3) الأتقان ج1/ ص40.
(4) المنار ج2/ص161.
(5) نفس المصدر.
(6) شرح عقائد الصدوق ص253
(7) البرهان للزركشي ج1 ص208.
(
تفسير الطبري ج30/ص138 الطبعة الميمنية بمصر,وقد توافقت مصادر أهل السنة في نقل هذه القصة في بدء الوحي مع أختلافات يسيرة.
(9) سيرة أبن هشام ج1 ص255.
(10) أعتمدنا في هذه النماذج على النقول التي وردت في كتاب الهدى إلى دين المصطفى للإمام البلاغي رحمه الله, راجع الهدى ج1 /ص14/16 .