أشياء كثيرة جميلة؛ منها الحرف اليدوية التي كانت ضحيةً لعصر التكنولوجيا، وسيطرة الآلة التي سحقت بماكيناتها كثيرًا من الحِرَف، كان الفن والجمال عنصرين أساسيين فيها حتى ولو لم يكونا مقصوديْن في ذاتهما. وقد يكون صحيحًا أن دخول الآلة على هذه الحرف ضاعف منتجاتها، وربما جوّدها عما كانت عليه؛ لكن المؤكد أنه قد أخذ معه كثيرًا مما كان فيها من جمال وفن وروح، وحولها إلى مجرد قطعة أو شيء لا يمكن الالتفات إليه وسط طوفان الإنتاج الكبير، بعد أن كانت كل واحدة منها تحفة فنية مستقلة بذاتها. وتجليد الكتب من الحرف اليدوية ذات اللمسات الجمالية والفنية التي طالها قطار الماكينة السريع؛ فلم يكن أمام أصحابها سوى ركوبه بحثًا عن عوائد الإنتاج الكبير والضخم، أو هروبًا -في معظم الأحيان- من خيار أسوأ؛ هو الاندثار والضياع مثل حرف يدوية أخرى آلت إلى المصير نفسه. تاريخ الصنعة وفي حي الأزهر بالقاهرة تجربة فريدة ربما كانت الوحيدة من نوعها في مصر والمنطقة العربية؛ إذ كان صاحبها واحدًا من القلائل الذين قاوموا فكرة أن يتحولوا إلى ترس في ماكينة تسحق وتبتلع معها لمسات الفن والجمال التي تنفرد بها الحرف اليدوية، واستطاع بعد تجربة طويلة ومعاناة أن ينجو بمهنته من الاندثار، وكان طوق النجاة أن يحولها من مجرد مهنة أو حرفة لا تستطيع الصمود في مواجهة عصر الآلة إلى فن وعالم من الجمال والذوق، تُنظَّم له المعارض العالمية، وتخصص له محلات "لافاييت" الفرنسية و"هاوردز" الإنجليزية أجنحة خاصة إلى جوار أرقى التحف والمقتنيات الفنية، يشد إليه محبو الجمال الرحالَ من كل أنحاء العالم ويدفعون في مقابله العملات الصعبة. وخلف الجامع الأزهر الشريف في مبنى وكالة "قايتباي" الأثري الذي يعود تاريخه إلى نحو 600 عام مضت تقع ورشة عم "محمد عبد الظاهر"، واحد من أشهر وأقدم من عملوا في تجليد الكتب في مصر.. فتاريخه في المهنة نصف قرن من الزمان بدأه في ورشة معلمه الحاج "علي حجاب" الذي كان قد بدأ في تجليد الكتب عام 1936، وكانت في ذلك الوقت مهنة رائجة خاصة في أحياء الأزهر والحسين، التي تعج بالمشايخ وطلاب العلم ومحبي القراءة والاطلاع الذين يهتمون باقتناء الكتب ومن ثم تجليدها للحفاظ عليها خاصة أمهات الكتب ونوادرها. وكانت المهنة تعتمد بالأساس على الأسلوب اليدوي التقليدي الذي يُعنى بحفظ الكتب من التآكل والتمزيق على إضافة بعض اللمسات الجمالية والفنية إليها في أحسن الأحوال، مثل: كتابة اسم المؤلف والكتابة بالذهب، ونقشه بطريقة "الزنكوغراف". لكنْ تدريجيًّا ومع التوسع في الطباعة وصناعة الكتب دخلت الآلات على مهنة التجليد، ولم يعد بإمكان التجليد اليدوي مواجهة التزايد الرهيب في الطلب أو الصمود أمام جودة التجليد الآلي؛ فبدأت حرفة التجليد اليدوي في الاندثار؛ حيث هرب معظم عمالها إلى المصانع الآلية، في حين اكتفى من تبقّى منهم بالقليل أو الفتات الذي يأتي من هواة جمع وحفظ نوادر الكتب والمخطوطات القديمة التي توشك على التآكل. بدل الاندثار كان عم "محمد عبد الظاهر" قد أجاد المهنة وشرب الصنعة حين تُوفي الحاج "علي حجاب" صاحب الورشة سنة 1966، فاستأجرها من ورثته الذين لم يجدوا في مهنة أبيهم ما يدفعهم للتمسك بها، ثم تملكها سنة 1972، ولم يكن أمامه للاستمرار في هذه الحرفة سوى إعادة اكتشاف مواطن الجمال والفن فيها لتحويلها إلى عملية إبداع فني وليس مجرد مهنة بحيث تصبح خارج المنافسة التي لن يصمد فيها أمام رجال المال والأعمال وإمكاناتهم العملاقة. وكان أول ما فعله هو التخلي عن تجليد كعب الجلد، وهو الأسلوب التقليدي الذي طبع الحرفة طوال تاريخها، فغيّر في خامات التجليد مستفيدًا من اطلاعه على اتجاهات ومدارس التجليد في البلاد الأوروبية وخبرات أصحابها.. فاستورد أحدث وأرقى خامات وأنواع الورق العالمية من فرنسا وهولندا والهند، مثل: الورق الرخامي، والورق الطبيعي.. وهي أنواع من الورق تقارب أسعارها أسعار الجلود. وابتكر تعديلات خاصة في تصنيع هذه الخامات داخل ورشته الصغيرة بحيث تصبح أقرب للصورة أو اللوحة الفنية، مستعينًا بتشكيلة من الألوان الرائعة الجديدة والمبتكرة تتجاوز الستين لونًا، كما ابتكر عدة تصميمات جديدة لتجليد الكتب تعتمد على المزج بين الخامات الأوربية والحرفة المصرية، وتزاوج بين الأذواق الشرقية والعالمية.. وبعد سنوات من الابتكار والتجريب تحولت حرفة التجليد اليدوي فيها إلى عملية خلق وإبداع فني خالصة، صار الكتاب المجلد قطعة أو تحفة فنية متكاملة لا تستطيع إلا أن تضعها في الفاترينات أو القاعات المخصصة لاقتناء المقتنيات والتحف الفنية، وليس مجرد كتاب يحتل جزءا من رف في مكتبة.. وامتدت الأنامل البارعة أيضا إلى ألبومات الصور، و"النوت بوك" و"الاسكتشات"، وعلب المستندات، والملفات لتحولها هي الأخرى إلى تحف فنية تستخدم في تجميل وتزيين المنازل والمكتبات الخاصة والعامة، وليست مجرد أدوات مكتبية يتخلص منها بعد أن ينتهي دورها؛ إذ تظل جزءا من جماليات المكان، بل وتهدى أحيانًا كتذكارات وهدايا، وتعد أقرب إلى لوحة فنية رسمتها ريشة فنان؛ إذ لا تتشابه واحدة مع الثانية! الورشة الصامدة وفي الورشة الصغيرة التقيت بـ "حسام محمد عبد الظاهر"؛ شاب في الثلاثينيات من عمره، ورث سر المهنة عن أبيه صاحب التجربة الفريدة هو وأخوه "حسين" ضمن 20 شابًا فقط، يعملون في الورشة الوحيدة من نوعها، التي ما زالت باقية في حرفة التجليد التي مات معظم روادها ومبدعوها دون أن يورِّثوا أسرارها لأبنائهم، وروى لي كيف أصبحت الورشة الصغيرة إحدى أهم مراكز فن التجليد في العالم بعد أن كانت في طريقها للإغلاق بسبب الكساد الذي لحق بحرفة التجليد اليدوي؛ فقال: بعد أن نجحت الابتكارات التي أدخلها والدي على التجليد اليدوي وحولته إلى فن خالص جذبت منتجاتنا السياح، والوفود الأجنبية التي تتردد على أحياء مصر القديمة بغرض السياحة، وكانت تشتريها باعتبارها تذكارات أو تحف شرقية تستحق الاقتناء، ثم اتسعت شهرة الورشة وصارت ملتقى للسياح وأعضاء البعثات الدبلوماسية الأجنبية والسفارات والأكاديميات والمؤسسات العلمية الأجنبية العاملة في مصر. وكان هذا نجاحًا كبيرًا لنا بل ربما أقصى طموحاتنا وقتها، إلى أن زار الورشة سائح فرنسي يُدعى "نيقولا نلسون" اشترى بعض الألبومات، والنوت بوك، والاسكتشات، ثم غاب فترة، وأرسل إلينا من فرنسا يدعونا للاشتراك في أشهر معرض للنوت بوك، وألبومات الصور في العالم تنظمه فرنسا في شهر سبتمبر من كل عام.. وبعد تردد اشتركنا بمساهمات صغيرة ورمزية؛ نظرًا لضعف إمكاناتنا المالية، وباعتبار أن أوروبا سوق غريبة علينا، ولن نستطيع المنافسة فيها مع أساطين فن التجليد العالمي.. لكن كانت المفاجأة..! حيث لاقى جناح منتجاتنا في المعرض نجاحًا هائلا، ونالت تصميماتنا الفنية إعجاب الأوروبيين، وهو ما دفع بنيقولا إلى تصميم موقع خاص على الإنترنت لعرض هذه التصميمات، خاصة بعد أن خصصت أكبر المحلات الأوربية، مثل: جاليري "لافاييت" في باريس، و"هارودز" في لندن أقسامًا فيها لعرض منتجاتنا إلى جانب كبرى المؤسسات العالمية المشهورة في فن التجليد. ويضيف "حسام": ومنذ أول مشاركة دولية لنا سنة 1996 في باريس، ونحن ننافس في كل المعارض العالمية حتى في إيطاليا نفسها التي تعد أكبر معقل لفن التجليد في العالم.. وقد لاقت تصميماتنا إعجابا واهتماما أوربيا؛ فكتبت عنا الصحف والمجلات الأوربية، خاصة المتخخصة منها في فن التجليد.. بل إن أستاذًا كبيرًا في جامعة "فينسيا" الإيطالية يُدعى "جيوفاني كانوفا"، ويعد من أشهر المختصين في الكتابة عن فنون التجليد - أرسل إلينا مؤلفاته، وكتب عن تجربة والدي في تطوير التجليد في العالم العربي وتحويله إلى فن قائم بذاته.. ومؤسسات وأكاديميات علمية كبرى في أوربا والغرب تتعامل معنا في تجليد الكتب والمخطوطات والوثائق النادرة لديها. زبائننا كلهم من المثقفين والفنانين والسفراء وأعضاء السلك الدبلوماسي، والجميع يتعامل معنا باعتبارنا فنانين وليس حرفيين أو أصحاب مهنة.. ويقدرون ذلك جيدًا، وأذكر أن دبلوماسيًّا أسبانيًّا كان يتعامل معنا أثناء عمله في السفارة الأسبانية بالقاهرة، وبعد سفره غاب أكثر من عام، ثم أرسل إلينا بطرد كبير به عشرات الكتب والمجلات العالمية المختصة في فنون تجليد الكتب بكل اللغات، ومن جميع أنحاء العالم هدية للورشة ودعمًا لرسالتها الفنية. |